في الحاجة لتدبير مغاير للتراث المادي لصفرو ومنطقتها
كانت رائحة الأرز ما تزال نفاذة بداخل برج غديوة حين اقتحمه مجهولون في ليلة من ليالي النصف الأول من شهر يناير 2015 ،عاث المجهولون فسادا وتخريبا بالبرج أياما قليلة بعد انتهاء أعمال صيانته وترميمه بتمويل من وزارة الثقافة
يذكر أن تحقيقات أجريت بخصوص التخريب الذي طال البرج المصنف بظهير ضمن الأبنية التاريخية ... قيدت القضية ضد مجهول
فأي تدبير للتراث المادي بصفرو ومنطقتها ؟
شكلت منطقة صفرو بالنظر لموقعها مجالا جاذبا للإستقرار البشري منذ القدم ،وهو ما تؤكده وفرة الكتابات حولها ،وكذلك الأبحاث الأركيولوجية التي أنجزت خلال الفترة الإستعمارية بموقع كاف المومن وكاف البقرة بجبل بينّا ( غرب صفرو ) ،وموقع آيت خليفة بمنطقة العنوصر ،كما ساهمت العوامل الطبيعية مثل الأمطار العاصفية في ابراز بقايا آثار بموقع آيت خليفة خلال شهر شتنبر 1987 .
كشفت التنقيبات الأركيولوجية عن مجموعات مختلفة من اللقي :آثار منشئات فنية ،شواهد مقابر ،قطع نقدية ،أدوات منزلية ،أحجار وعظام حيوانات لا تنتمي للمنطقة كوحيد القرن والدب استعملت في الغالب في طقوس تعبدية وثنية مما يكشف جزء من ثقافة الساكنة وتاريخها .
ما يؤسف له في هذا الباب هو الحالة المتردية التي تعرفها هاته المواقع وما تعرفه من تخريب من طرف ' الباحثين عن الكنوز " في غياب لحماية قانونية وتصنيف لها ضمن التراث المادي ،والمؤسف أكثر هو عرض ما اكتشف فيها من لقي في متاحف خارج مدينة صفرو.
يعتبر إحداث متحف يضم التراث المادي واللامادي لصفرو ومنطقتها يؤرخ للمجال والإنسان من العتبات الرئيسية لتوثيق وصون الذاكرة والمصالحة مع الماضي ،لما يمكن أن يلعبه من دور تثقيفي/تعليمي يكشف جزء من تاريخ المنطقة وثقافتها المتعددة الروافد والأشكال والتمظهرات ،وما يمكن أن يلعبه من ترويح للمنطقة ضمن مقاربات السياحة الثقافية .
بهذا المعنى ،يبدو أن البحث عن صيغ لإسترداد اللقي الأثرية الموزعة بين متحف البطحاء ومتاحف أوروبية من أجل إعادة توطينها قد يشكل موضوع اهتمام مشترك يتقاطع فيه المجتمع المدني مع الجماعات الترابية والقطاعات الحكومية ذات الصلة والمؤسسات العلمية كل في مجاله ،وهذا ما سيؤدي بالضرورة للتفكير في خلق " المتحف الأركيولوجي والطبيعي لصفرو ومنطقتها " .
المواقع المصنفة تراثا وطنيا :نصوص متجاوزة وواقع مفارق
تتوفر صفرو ومنطقتها على أربعة نصوص قانونية تدخل في عداد المحافظة على التراث المادي ،صدرت كلها في الفترة الاستعمارية (!!!) ما بين 02 نونبر 1926 و08 فبراير 1950 وتهم صفرو والمنزل والبهاليل ،وهي نصوص بقدر ما هي بحاجة لتحيين وملائمة ،بقدر ما هي بحاجة إلى سمو وتفعيل في انتظار إصدار نصوص تطورها أو تنسخها .
حظيت مدينة صفرو بنصين يتعلقان بالتراث الوطني المادي ،ويتعلق الأمر بظهير 02 نونبر 1926 ،الصادر بالجريدة الرسمية عدد 738 بتاريخ في 14 دجنبر 1926 والذي ينص على :" تقيد في عدد الأبنية التاريخية أسوار وأبراج وأبواب مدينة صفرو وضواحيها المعروفة بالقلعة ..." ،في حين ينظم النص الثاني التنسيق المعماري للمدينة الجديدة لصفرو المفروض التقيد به لبناء العمارات وتحديد شروط ذلك من خلال قرار وزيري للمدير العام لإدارة العلوم والمعارف والفنون الجميلة والآثار القديمة المؤرخ في 10 دجنبر 1926 ،الصادرة في الجريدة الرسمية عدد 744 بتاريخ 25 يناير 1927.
ينص القرار الوزيري المؤرخ في 16 مارس 1949 والصادر في الجريدة الرسمية عدد 1902 بتاريخ 08 أبريل 1949 في الفصل الأول :" يقيد منظر المنزل مكتب دائرة صفرو ضمن الأمور التاريخية ..." ،وتجري عليه الحرمات الوقائية المبينة في قرار مدير التعليم العمومي حسب الفصل الثاني من القرار .
يقيد في عدد الأبنية التاريخية منظر البهاليل البهيج ( مكتب دائرة صفرو ) وتجري عليه الحرمات الوقائية المبينة في قرار مدير التعليم العمومي ،هذا ما يخبرنا به الفصل الأول والفصل الثاني من القرار الوزيري المؤرخ في 08 فبراير 1950 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 1951 بتاريخ 17 مارس 1950 .
بغض النظر عن ملحاحية تحيين النصوص القانونية المرتبطة بتصنيف وتقييد المواقع المشار إليها اعلاه ،تبدو ضرورة تحيين وإشهار الخرائط المرفقة بقرارات التصنيف والتقييد مع التعليلات التي انبنت عليها حتى يتبين المعنيون كل من موقعه رشدا ،ويتحمل كل مسؤوليته .
وبغض النظر عما سلف ،تجدر الإشارة إلى كون القرارين الوزيرين المرتبطين بالمنزل والبهاليل يعتبران في حكم المتجاوز وذلك بالنظر للبشاعة التي خيمت على المنظرين الجميلين بفعل التوسع العمراني مما أدى إلى اختلالات فظيعة بين المجال الزراعي والمجال العمراني على مستوى الموقعين ،وهي الإختلالات التي كرستها تصاميم التهيئة الحضرية التي خصصت لمدينتي المنزل والبهاليل دون الأخذ بعين الإعتبار القرارين الوزيرين الذين يكتسبان قوة قانونية وتترتب عليهما مجالات محرمة على البناء والتعمير .
في ما يخص النصين المرتبطين بصفرو ،يرجح أن التنسيق المعماري لم يتم احترامه في عدد من الإنشاءات والإصلاحات التي تهم البنايات في المقطع المحدد قبل إحداث عمالة صفرو وبعدها ،أما في ما قيد ضمن الأبنية التاريخية بظهير فالأمر يدعو للرثاء حقا ،فأشغال الترميم والإصلاح بحي القلعة تمت وتتم بمواد غير أصلية وفي غياب تام لمفتشية المباني التاريخية والمواقع التابعة للمديرية الجهوية للثقافة التي تتولى حسب المادة 7 من قرار لوزير الثقافة رقم 16-1701 صادر في 4 رمضان 1437 (10 يونيو 2016) بتحديد اختصاصات وتنظيم المصالح اللاممركزة لوزارة الثقافة القيام ب- دراسة الطلبات المتعلقة بتراخيص الأشغال وتتبعها ؛ مراقبة العمليات المرخص بها المتعلقة بترميم أو تغيير العقارات المدرجة في عداد الآثار أو تغيير مظهر الأماكن التي تشملها دائرة الإدراج و إثبات المخالفات المنصوص عليها قانونيا من قبيل عمليات الهدم والتشويه نتيجة البناءات غير المرخص بها أو الإصلاحات العشوائية التي تخالف المقتضيات التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل في ميدان حماية التراث المعماري .
وإذا كانت المحافظة الجهوية للتراث الثقافي قد قامت بترميم أجزاء من أسوار المدينة لصفرو ودعمت جزء من سور القلعة بالإضافة لبرج غديوة قبل 2015 انطلاقا من مسؤوليتها المباشرة على ترميم المباني التاريخية والمواقع الأثرية بناء على المادة 6 من المنشور المشار إليه أعلاه ،فإننا قد لا نجد لها أثرا في كثير من الجوانب ومنها إتلاف مكونات أبواب المدينة وأبراجها خاصة مع التغيرات التي طرأت على الأبراج الثلاثة الأخرى وإتلاف برج باب الخندق نهائيا ،أما باقي تدخلات المحافظة الجهوية والمنصوص عليها في المنشور إياه فهي في الغالب الأعم حبر على ورق .
في الحاجة لتدبير مغاير للتراث المادي لصفرو ومنطقتها
يبدو من الأهمية بمكان في مقاربة تدبيرية مغايرة للتراث المادي لصفرو ومنطقتها وكعتبة أولى هو إخراج القوانين من برودة الرفوف وعتمتها لتكتسب حياة بتطبيقها وسموها ،لا محيد بهذا المعنى حماية الأبنية التاريخية والمواقع الأثرية و ضمان الحرمات الوقائية المرتبطة بها وضمنها مجال حماية الموقع وذلك في ما يتعلق بأبواب وأسوار وأبراج مدينة صفرو وضواحيها المعروفة بالقلعة ،وجزء من شارع محمد الخامس بالمدينة الجديدة لصفرو والمنظرين الجميلين للمنزل والبهاليل وتثمينها ،ثم العمل على تحيينها .
في هذا السياق ،تجدر الإشارة إلى أن قرار وزير الثقافة رقم 16-1701 صادر في 4 رمضان 1437 (10 يونيو 2016) بتحديد اختصاصات وتنظيم المصالح اللاممركزة لوزارة الثقافة يجعل المديرية الجهوية للثقافة لجهة فاس مكناس المسؤولة الأولى على تدبير التراث المادي واللامادي بإقليم صفرو ،والتي فيما يبدو لا يدخل هذا الأخير في سلم اهتمامتها ،فالمديرية الجهوية للثقافة حسب المادة 3 من القرار مسؤولة عن صيانة التراث الثقافي المادي وغير المادي تثمينه،إنجاز الأشغال المتعلقة بترميم التراث المعماري والأثري ؛السهر على جرد التراث المادي وغير المادي وتقييده وتريبه وإبراز قيمته ؛السهر على تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بحماية التراث الثقافي ؛خلق وتعزيز الشراكات مع الجماعات الترابية والسلطات المحلية والجمعيات والهيئات العاملة في المجال الثقافي ، بعد مصادقة الإدارة المركزية إذا كانت سترتب عليها التزامات مالية .
تسرد المواد 5 ،6 ،7 و8 من المرسوم المشار إليه أعلاه الإختصاصات والصلاحيات الموكولة للمحافظة الجهوية للتراث الثقافي ،وهي مهام لو تم القيام بها لكان تراثنا المادي مثمنا وجاذبا ومساهما في البحث العلمي وداعما للسياحة الثقافية ،لكن فيما يبدو يقتصر حضور وزارة الثقافة في حماية وتثمين التراث المادي واللامادي للإقليم في حضور باهت ضمن بعض اللجن التقنية ،واستغلال مناسبة مهرجان حب لملوك للترويج للمدن االمغربية المصنفة ضمن التراث الإنساني اللامادي .
العتبة الثانية وهي ضمن اختصاصات المحافظة الجهوية هو تثمين موقع آيت خليفة بالعنوصر وكاف المومن وكاف البقرة بصفرو وذاك بتصنيفهما ضمن المواقع الأثرية ،مع ما يترتب على ذلك من حماية قانونية .
بهذا المعنى ،قد يكون إنشاء " المتحف الأركيولوجي والطبيعي لصفرو ومنطقتها " عتبة أساسية لرد الإعتبار للتراث المادي واللامادي للمنطقة ،إذ من الممكن أن يشكل بنية استقبال لتجميع اللقي الأثرية والجيولوجية للمنطقة ،وثقافتها المتعددة المشارب .وبالتالي لا بد من التفكير في استرداد اللقي الأثرية والمستحثات المستخرجة من إقليم صفرو .
إن رد الإعتبار للتراث المادي واللامادي للمنطقة مسؤولية جماعية بالتناسب ،لذلك نعتقد في دور الجماعات الترابية في تثمينه والترويج له من خلال اقتناء العقارات ذات القيمة التاريخية والمعمارية ،وضع علامات تشوير باللغات الممكنة وأساسا اللغتين الوطنيتين للعريف بالمواقع الأثرية والأبنية التاريخية ،لوحات إعلاميات تكشف المؤهلات الأثرية للمنطقة ،وضع دلائل سياحية ثقافية رهن إشارة الزوار ...
المجتمع المدني شريك أساسي في التدبير المغاير للتراث المادي من خلاله آليات الديمقراطية التشاركية ،وكذلك بأنشطته الثقافية والتربوية الهادفة إلى التعريف بالتراث المادي واللامادي للمنطقة عبر الخرجات الإستكشافية والسياحة البديلة دون اغفال دوره إلى جانب شركائه في التمكين المعرفي بالمنطقة وتاريخها وتقوية قابلية الشباب للتشغيل في هذا المجال والمهن التي قد تكون مرتبطة به .
صفرو في 24 يوليوز 2020
محمد كمال المريني
: الكاتب