مدينة صفرو التي كانت في خاطري
احمد المخشوني
صفرو... مسقط الرأس ومرتع الطفولة ومهوى الشباب ،صفرو المدينة العتيقة بأزقتها الضيقة كأنها شرايين قلب ينبض بالحياة ،من المسجد الأعظم مركز المدينة إلى البوابات الكبرى التي تتخلل السورالذي يحيط بالمدينة إحاطة الدملج بالمعصم .
من فتحات وشقوق أسوارها تشتم عبق التاريخ وحكايات الأمس البعيد ،وأنفاس من سكنوا الديار التقليدية العامرة بأكثر من أسرة وعائلة مع حسن الجوار والمودة والرحمة وتقاسم الرغيف والخميرة "البلدية" ،والأفراح والأتراح بعفوية وتلقائية كأنها اليوم واجب فرض وإلزام، تلك هي مدينتي التي كانت في خاطري
وادي أكاي الذي يشطر المدينة إلى عدوتين :عدوة "الشباك وعرصة الدار والبستنة "وعدوة "زمغيلة وتاقصبت وبني مدرك" ،وادي أكاي الذي يسيل منذ الأزل في هدوء ،يغدي المنازل والمساجد والزوايا والحمامات بماء الطهارة والوضوء ،ثم ينساب ليسقي أحواض الخضر والنعناع وبساتين الغلال والأشجار وخصوصا أشجار الكرز - حب الملوك- في انبساط الحقول في منطقة "الكلات ".
صفرو التي كانت في خاطري ،كانت الحياة فيها بسيطة وجميلة كالحلم بحجم راحة اليد ،وجوه وأسماء وأحياء ومعالم تألفها العين في يسر وسهولة :وتحيات الصباحات والأماسي تملأ الدروب والحارات بعبارت البشر والسلام
هنا سقاية الماء في "ناس أعدلون" وهناك نسوة ورجال يغسلون الصوف والقمح والبطاطين والزرابي في صهاريج "غديوة" وهنالك في ساحة الحدادين في الصباح الباكر نسوة يبعن ما أبدعته أياديهم من غزل الصوف والحايك وعقد الجلاليب ،ودلال يرفع صوته عاليا جيئة وذهابا يعرض في المزاد صينية وبراد شاي من نحاس أصفر أو شربيل مطرز بالصقلي الحر أو مهد مصنوع من جدع أشجار الكركاع المتواجد في بساتين "أكاي وحجر الهواري" الحي الراقي الذي كان يقطنه المعمرون وأصحاب المال والنفوذ. وهنالك قبالة المسجد الأعظم "قبة السوق حيث أكوام الخبز البلدي ورائحة السمن والخليع عند "الكوان" رحمه الله، ونسائم شواء الكفتة والصوصيص عند "الكيلو" رحمه الله. وهنالك شيخ مسن قادم من سيدي أحمد التادلي ينزل الهوينا من "دريجات ابليس" من أجل أن يلحق برفاقه المتقاعدين في "اعوينة الدندان" للعب الداما أو الروندا....أو تذكر واستعراض بطولات المغاربة "الكوم" في حرب "لندوشين"...
وهنالك جنان السبيل – لابيسين - حيث الظل الظليل والخمائل الوارفة والمياه المنسابة وجلسات الأنس والرومانسية في أصائل الريبع والصيف.
مدينتي سبحان من بث فيها دفء السكينة والطمأنينة ينجذب الزائر إليها كما ينجذب الرضيع لدفء حضن أمه الحنون ، فيتخذها ملجأ ومسكنا وموئلا.
وفجأة ضاعت مني مدينتي وافتقدت سحرها وأريجها وغاب عني رونقها وجمالها.
في أزقتها أختنق بالضيق والازدحام ،ويطرق سمعي صنوفا وألوانا من سقط الكلام وأرى الوجوه عابسة واجمة هجرت لغة الابتسام....
واليوم بفيض مرارة وحرقة... أسائل كل محب وعاشق للمدينة :
ترى هل أجد مدينتي التي كانت في خاطري؟؟؟
احمد المخشوني
: الكاتب