2020-12-14

ممّاس

sefrou_image

من الوجوه التي لا يزال أبناء مدينة صفرو يتذكرونها بحنين عارم، شخصية ممّاس، هو ذا اللقب الذي سقط على ذلك الدرويش الذاهل، الذي كانت الابتسامة العريضة لا تفارق محياه. يعتقد البعض أن له بركات لا يمكن وصفُها، وأنه صاحب طريقة، وكان رغم تصرفاته التي تبدو غير سوية، يشمل القطط والكلاب الضالة بعطفه وحنانه.
كثيرة هي الشائعات التي تسري في مدينة صفرو عن هذا الرجل، ومن بين هذه الشائعات، أنه كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وأنه رغم كونه متشردا أو متسولا، كان ينفق بسرية مما يجود به عليه الأجواد، على عدد من النساء الأرامل واليتامى والغرباء الذين «تقطّع بهم الحبل». يأخذ من هؤلاء ويعطي لهؤلاء؛ دون تأفف أو مقابل.
كان ممّاس يذرع أزقة المدينة وأحياءها من أدناها إلى أقصاها مشيا على الأقدام، لساعات طويلة؛ دون أن يحس بالتعب، وكأنه خُلق للمشي وليس لشيء آخر، مرتديا جلبابا خشنا فوق جلبابه القديم، الذي لا يتخلى عنه حتى في أشد أيام الصيف حرارة.
يطوف بالمدينة كمن يبحث عن شيء ما فقده، وإذا تعب من البحث، بعد ماراطون طويل، يستريح تحت ظل تلك الشجرة التي لا تزال واقفة، عند مدخل باب المربع؛ دون أن يهتم بمن حوله. وعندما يستيقظ، وغالبا ما يستيقظ مبتسما، يبدأ الناس يسألونه متى سيتزوج؛ فيتطلّع إلى السائلين، يجيب بعض الأحيان، ويصمت أغلب الأحيان دون أن تفارق الابتسامة محياه.
في بعض الأيام، يغيب ممّاس حتى ليظن الناس أنه قد مات أو هجر المدينة إلى مكان آخر مجهول. لكن فجأة، يظهر بنفس الوجه، وبنفس اللحية، والابتسامة، والهيأة والجلباب الصوفي الفضفاض، ويأتي بكلمات لا تخلو من حكمة وتبصُّر. إن الكلمات التي تجري على لسانه غالبا ما تكون متناسبة مع الظروف والنوازل: «الخيط الراشي ما يعقد الخْناشي، حاول ترقّع شي بشي، إلى وْحَلْت، شي أحسن من لاشي!»
يضحك بصخب فتبرز أسنانه التي جلّلها الاصفرار ثم يتابع: «الشمس تطلع والنجوم تغيب، يشيخ لكبير والصغير يشيب، آه، على الدنيا الغدّارة بنت الذيل الكلب!»
وجهٌ صامت القسمات من ناحية ومدوّي من ناحية أخرى، والناس يتابعون بدقة ويراقبون، وأغلب الأحيان، راغبون أو مُشفقون. لكن بمقدار ما يفترضون أن الحياة مليئة بالمتاعب؛ فإنها جديرة بالاهتمام!

لم تكن مدينة صفرو تُغالب ضجرها وهمومها بمداعبة ممّاس وحده، لأن هذا المجذوب الشارد، بمقدار ما يبدو مُسلّيا ومقبولا أحيانا، فهو في أحيان أخرى سليط اللسان إلى درجة البذاءة، خصوصا حينما يسمع «أممّاس غْليظ الرّاس»؛ فإنه لا يتردد في أن يكون خشِنا، وفي بعض الأحيان عدوانيا، الأمر الذي يجعل الكثيرين لا يقتربون منه، لأنهم يخشون لحظات جنونه، بل وأكثر من ذلك، يتجنب البعض مجرد الاقتراب منه تفاديا للتعرض لشيء لا تُحمد عقباه.
لو كان بالإمكان أن نعرض الوجوه التي مرّت من مدينة صفرو دون أن يتذكرها أحد لما اكتفينا بعشرات الصفحات، بل بالمئات، ولذهلنا من الأفكار والكلمات والأحلام التي كانت تعْبُر رؤوس هذه الوجوه النقية البيضاء قبل أن تمضي إلى ذلك المكان البعيد، اللامتناهي.
بقلم أحمد الشريف ادريس.

: الكاتب



عدد المشاهدات : 2089

← رجوع


© Sefrou.com 2020